قراءة في مذكرة اقتراحات جماعة العدل والإحسان لتعديل مدونة الأسرة(4/4)
مقترحات الجماعة في موضوع الإرث.
لم تخرج الجماعة بمقترحاتها عن مفهوم القوامة كما حدده الموروث الفقهي التقليدي؛ إذ جاء في المذكرة أن "الشريعة الإسلامية.. وزعت الميراث بالقسط بين الورثة، مراعية في ذلك: ما يتحمله الرجل من تبعات تلخصت في القوامة التي تعني حماية الزوجة وصيانتها وجلب المصالح إليها ودرء المفاسد عنها والنفقة عليها، في مقابل حافظيتها التي تعني حفظها لنفسها وبيتها وولده وماله". لهذا اعتبرت الجماعة "المطالبة بالمساواة في الإرث بحجة الاجتهاد أو التجديد في الأنصبة أو الحجب أو إلغاء التعصيب بإطلاق فيها ما فيها من إلغاء أحكام نصت عليها أدلة شرعية". فهل مقترحات الجماعة منسجمة مع مقاصد الشريعة ؟
(ما قدو فيل زيدو فيلة).
تكريسا لاستغلال المرأة وإباحة عرضها ومالها، نهجت الجماعة منحى أشد ظلما للنساء باسم الشريعة، مخالِفة لكل المطالب والمواقف المعبر عنها من مختلف الهيئات والأحزاب. فالجماعة لم تكتف بتزكية نظام التعصيب الذي يبيح أكل أموال النساء بالباطل، بل أضافت إلى العصبة فئة أخرى من ذوي الأرحام بأن جعلت لهم نصيبا في تركة الأسرة التي لم ترزق ذكورا، كالتالي: " مما نقترح إدراجه ضمن تعديلات المدونة في الباب السادس المتعلق بالمواريث، جعل ذوي الأرحام من الوارثين بالشروط المرعية عند الفقهاء". وحددت الجماعة ذوي الأرحام في:
– من جهة البنوة (فروع الميت): كل من ينتمي إلى الميت عن طريق البنت، ويقصد بهم: أولاد البنات، وأولاد بنات البنين وإن نزلوا، ذكورا كانوا أم إناثا.
– من جهة الأبوة (أصول الميت): كل من ينتمي الميت إليهم عن طريق أنثى، ويقصد بهم: الأجداد الساقطون كأب أم الميت، والجدات السواقط كأم أب أم الميت، وإن علون، وسواء قربوا أم بعدوا.
– من جهة الأخوة (فروع أبوي الميت): كل من ينتمي إلى أبوي الميت، ويقصد بهم: أولاد الأخوات، وبنات الإخوة، وأولاد الإخوة لأم، ومن يدلي بهم إن نزلوا.
– من جهتي العمومة والخؤولة (فروع أحد أجداد الميت وجداته): وهم الأعمام لأم، والعمات مطلقا، وبنات الأعمام مطلقا، والخؤولة مطلقا وأولادهم وإن نزلوا".
كل هذا الجيش من الأخوال والخالات وأبنائهم وبناتهم وإن نزلوا، إلى جانب الأعمام والعمات وأبنائهم وبناتهم جعلت لهم الجماعة نصيبا في التركة. ففي الوقت الذي تقدمت الهيئات النسائية والحقوقية وغالبية الأحزاب بمذكرات تقترح فيها إلغاء التعصيب الذي لا سند له في القرآن الكريم، تتقدم الجماعة بمقترحات تزيد من ظلم المرأة وقهرها وحرمانها من تركة والديها وقد تكون ساهمت بنصيب أوفر في تحصيلها ومراكمتها.
ومن التناقضات التي سقطت فيها الجماعة أنها اعتبرت أن الشريعة الإسلامية "وزعت الميراث بالقسط بين الورثة "، وفي نفس الوقت "إن الشريعة مكنتنا من اختيارات بها نرفع الحرج عن ناس ممن يخشون تشرد بنات أو زوجة بعد وفاة الأب أو الزوج، حيث إن المعني بالأمر يمكنه إبرام عقود قيد حياته وباختياره كالعُمرى والهبة والوصية بشروطها كي يحافظ على ما يخشى فواته". فإذا كان التعصيب حكما إلهيا حسب مزاعم الجماعة، فهل يجوز التحايل على الله باللجوء إلى الاختيارات التي طرحتها الجماعة؟
لا شك أن مقترحات الجماعة، في هذا الباب، لا تستقيم قانونا وفقها وحتى واقعا. ذلك أن قانون الإرث المعمول به يعطي للورثة الحق في رفض الوصية أو الطعن فيها لصالح أحد الورثة كما هو منصوص عليه في مدونة الأسرة: المادة 280 (لا وصية لوارث إلا إذا أجازها بقية الورثة)، المادة 283 (يشترط في الموصى له أن لا تكون له صفة الوارث وقت موت الموصي)؛ ثم المادة 303 (إذا أجاز الورثة الوصية لوارث أو بأكثر من الثلث، بعد موت الموصي أو في مرضه المخوف المتصل بموته، أو استأذنهم فيه فأذنوه، لزم ذلك لمن كامل الأهلية منهم).
فضلا عن، هذا فالجماعة لم تستحضر القاعدة التي جعلها الله تعالى شرط التوارث في الآية الكريمة (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ) البقرة:233. إنها قاعدة "الغُرْم بالغُنْم" التي تعني (ما يلزم المرء من مال لقاء ما يحصل له من منافع من ذلك الشيء، وأن من يحصل على الغُنْم لا بدَّ في مقابل ذلك أن يتحمل الغُرْم إذا وقع). فالوارث يكون ملزَما بالنفقة على من سيرث. فهل العصبة من الأعمام وأبنائهم وأبناء أبنائهم ملزمون بالنفقة على بنات الهالك الذي سيرثون فيه تعصيبا؟ بالعودة إلى مدونة الأسرة نجد المادة 197 تنص على أن (النفقة على الأقارب تجب على الأولاد للوالدين وعلى الأبوين لأولادهما طبقا لأحكام هذه المدونة).
أما مسألة العمرى والهبة فهي إحدى الحلول التي يلجأ إليها الآباء في سن متأخرة لأن الأمل في أن يُرزقوا ذكورا يبقى يحذوهم إلى حين بلوغ الزوجات سن اليأس. فلا أحد يضمن عمره إلى سن الخمسين، إذ قد يفاجئ الموت أي أب أو أم وهما لم يؤمّنا، بعدُ، بناتهما من التشرد. وفي المقابل لا يمكن للأبوين أن يلجآ باكرا إلى العمرى والهبة فيُحْرِما من سيولَد من الأبناء. يضاف إلى هذا احتمال فقدان الأسرة للابن الذكر لأسباب كثيرة فيسارع العصبة إلى تشريد البنات وحرمانهن من ثلث التركة أو نصفها إن كانت بنتا واحدة.
واضح، إذن، أن الجماعة لم تستحضر هذه الاحتمالات وهي تعدّ مذكرتها، ولا يمكنها أن تفعل ذلك طالما ظلت سجينة موروث فقهي ذكوري لا يهمه تحقيق العدل والتكريم والإنصاف كأهم مقاصد الشريعة. لهذا لم تأخذ الجماعة بالاجتهادات الفقهية التي ألغت التعصيب وطبقت "قاعدة الردّ" لفائدة البنات وحتى الزوجات في الأسرة التي لم ترزق ذكورا.
كان على الجماعة أن تستنير بسيرة الرسول (ص) وصحابته الكرام وأئمة المسلمين في مسألة الميراث وكيف اعتمدوا قاعدة الردّ للحفاظ على حقوق البنات كاملة في التركة دون تقاسمها مع العصبة. ففي حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها، أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ. ثم حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به".
وجه الدلالة هنا هو: أن النبي جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها ذلك إلا بالردّ. ثم ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية فماتت أمي وبقيت الجارية فقال (ص): (وجب أجرك وعادت اليك الجارية). فرجوع الجارية كلها إليها دليل على جواز الرد وإلا فليس لها إلا النصف فرضاً، بحيث يمكن بيع الجارية وأخذ نصف ثمنها والنصف الثاني يؤول إلى العاصب.
لكن الرسول (ص) عمل بقاعدة الرد دون قاعدة التعصيب. وقد ذهب عدد من الصحابة والأئمة إلى القول "بالرّدّ"، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عبّاس وابن مسعود وجابر بن عبدالله [= جابر بن يزيد] وشريح وعطاء ومجاهد وتَبِعهم في ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. أما قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وجابر بن يزيد: يُرد الفائض على جميع أصحاب الفروض حتى على الزوج والزوجة. ولعل الأخذ برأي الخليفة عثمان بن عفان سيحمي الزوجات اللائي لم يلدن أولادا، أو لهن فقط البنات، من ظلم العصبة، ويضمن لهن الاستفادة من كل التركة.
إذن، فالقائلون بالردّ هم جمهور الصحابة والتابعين وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشيعة والامامية والزيدية ومتأخرو المالكية والشافعية. والمغاربة كمالكيين، سيكون أجدر بهم الأخذ بقاعدة الرد وتطبيقها لفائدة كل الإناث، زوجات وبنات، حتى مع وجود أخوة الهالك أو أبنائهم.
تعدد الزوجات.
تنطلق الجماعة، كما هو الشأن بالنسبة لباقي تنظيمات الإسلام السياسي من قناعة أن "شريعة التعدد إنما جاءت حلّا لمن هو قادر على الجمع بين زوجين فأكثر، ويخاف على نفسه من الزنى، أو يرجو الولد". لهذا ترفض إلغاءه. وتضمن المذكرة بعض المقترحات في الموضوع أهمها:
ـ" رفض مطلب إلغاء التعدد؛ لأن فيه نوعا من التجني والمصادرة على حقوق الناس خصوصا إذا كانت هناك أسباب واقعية وموضوعية تقتضيه، إذ المنع المطلق قد يفتح أبواب العلاقات غير الشرعية.
ـ بخصوص الضمانات الحامية للزوجة والأبناء في حالة التعدد، يرجع فيها إلى السلطة التقديرية للقاضي.
ـ الإبقاء على المادة 16 مع حصر تطبيقها في الحالات الناشئة قبل الأجل المحدد لبداية تطبيقها.
ـ إلغاء الفقرة الأخيرة من المادة 45 والتي تقضي بإعمال المحكمة مسطرة الطلاق للشقاق تلقائيا في حالة رفض الزوجة قبول التعدد وإصرار الزوج عليه حتى وإن لم تطلب الزوجة التطليق، بل يترك لها الاختيار بين أن تُبقيَ على عقد الزوجية أو أن تطلب حَلَّه".
لكن الملاحظ في اقتراحات الجماعة في موضوع التعدد، هو ربطه بـ"تقدير مدى حاجة الأمة أو المجتمع للتعدد". فالجماعة لازالت سجينة وهْمِ قيام دولة الخلافة التي ستوحد المسلمين في كيان سياسي واحد. لهذا جاءت مذكرتها تتجاوز حدود الوطن والمجتمع المغربي لتشمل "الأمة" الإسلامية جمعاء. فإذا دعت حاجة الأمة إلى إكثار سواد أفرادها لإحياء عهد الفتوحات/الغزوات، فإن تعدد الزوجات سكون مطلوبا لتلبية تلك الحاجة.
استنادا إلى ما سبق يمكن الخلوص إلى كون الجماعة لم تلتزم بما أعلنته في مقدمة مذكرتها وحددته كإطار لمقترحاتها بأنها "منطلقة من مرجعيتها الدينية المستندة إلى القرآن الكريم والسنة المشرفة، وإلى الاجتهاد المؤسس على المقاصد الشرعية العامة، وعلى القوي مما خلفه علماؤنا في الفروع والأصول، دون إغفال ما توصلت إليه الحكمة البشرية من حلول ناجعة متعلقة بالأسرة". فقد لمسنا تمسك الجماعة بالشاذ من الفتاوى ومخالفتها لسنة الرسول الكريم واجتهادات الصحابة والأئمة فيما يتعلق بالتعصيب وإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي امتثالا لقوله تعالى (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله). لقد جاءت مذكرة الجماعة مكرّسة للظلم الاجتماعي في حق النساء ومشرعنة لأكل أموالهن بالباطل.